الحمدلله الواحد
الأحد ، رفيع الدرجات الفرد الصمد ، الحمدلله معز من أطاعه وخالف هواه ،
وعد الرحمة من جاهد نفسه بالتوفيق لهداه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده
لا شريك له تقدس في علاه ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخليله ومصطفاه
،صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن والاه ، وعلى من تبعه بإحسان إلى يوم
العرض والموافاه ثم أما بعد :

أيها المسلمون : إن من أعظم طرق
النجاح ، والتقدم بالنفس الإنسانية وبالمجتمع المسلم إلى أرقى درجات الكمال
والرفعة ، هو المكاشفة والمصارحة لبيان العيوب والأمراض وعلاجها علاجاً
صحيحاً ، فالله سبحانه وضع هذا المنهج وهو المكاشفة والمصارحة حتى مع حبيبه
وخير خلقه وهو محمد صلى الله عليه و سلم فيقول له في القرآن بصريح العبارة
)ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك ( ويقول في آية أخرى
)وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً
قَلِيلاً{74} إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ
ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً{75}( ويقول في موضع آخر ) وَلَوْ
تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ{44} لَأَخَذْنَا مِنْهُ
بِالْيَمِينِ{45} ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ{46} فَمَا مِنكُم
مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ( فكان محمد صلى الله عليه و سلم النبي
الكريم خير من امتثل أمر ربه وبلغ الكمال في الطاعة والعبادة والسلوك
والأخلاق صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أيها
المسلمون : والقرآن في توجيهات وتعليماته يركز على القواعد الكلية والأسس
المرعية التي تبنى عليها حياة الأفراد والشعوب والمجتمعات بكل صراحة ووضوح ،
وإن من القواعد الإلهية والسنن الكونية التي أشار إليها ربنا جل وعلا في
كتابه ما جاء في قول المولى جل في علاه : )وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا
لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ
الْمُحْسِنِينَ([العنكبوت 69]،فالآية الكريمة فيها سبب النجاح وفيها الهدف
والغاية والثمرة من هذه الوسيلة فالله سبحانه يقرر أن طريق الهداية للسبل
المختلفة هو مجاهدة النفس والهوى فإن ترك المجاهدة هو طريق الخسارة
والغواية والذلة والعبودية وكل ما يخطر ببال الإنسان ، وتأمل معي قوله
سبحانه (سبلنا) ولم يقل سبيل واحد أي أن هذه القاعدة هي طريق النجاح وسبيل
الفلاح في أمور كثيرة، قال ابن كثير رحمه الله : ")والذين جاهدوا فينا(
يعني الرسول صلوات الله وسلامه عليه وأصحابه واتباعه إلى يوم الدين ،
)لنهدينهم سبلنا ( أي لنبصِّرنَّهم سبلنا أي: طرقنا في الدنيا والآخرة
"أ.هـ فالسبل في أمور الدين والدنيا في سبيل العبادة والتقرب إلى الله ،
فلا يمكن لمتبع لهواه غير مجاهد لنفسه أن يصلي أو أو أن يصوم ويحرم نفسه
مما تشتهيه النفس ، كيف يعبد الله ويتصدق من المال الذي يحبه من لم يجاهد
نفسه الأمارة بالسوء حتى تنفق مما تحب ، كيف يقهر العدوا وتحمى الديار
وترعى الذمام ممن لا يرفع رأساً بالجهاد في سبيل الله وطلب الشهادة في
سبيله كيف يبذلك نفسه رخيصة في سبيل الله حتى ينال أعلى الدرجات من لا
يجاهد نفسه في قول كلمة الحق ولو خسر ما خسر من الدنيا إن هذه المقامات
العظيمة يلخصها قول ربنا جل وعلا )فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن
الجحيم هي المأوى ، وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي
المأوى ( .

مجاهدة النفس هي طريق للنجاح في سبيل الرقي بالنفس
والسلوك والأخلاق ،فالمولى جل وعلا قال في نهاية الآية )وإن الله لمع
المحسنين( جاء عند ابن أبي حاتم عن الشعبي رحمه الله أنه قال : قال عيسى
ابن مريم عليهما السلام : " إنما الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك ، ليس
الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك "أ.هـ ، فالحياة الاحتماعية والعلاقات
الأسرية تكون بهذه القاعدة وهي الإحسان بكل صوره وخاصة مع الأقرب فالأقرب ،
بل أمرنا بالإحسان مع غير المسلم غير المقاتل لنا فيقول المولى جل وعلا :
)لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ
وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا
إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (.

طريق للنجاح في
سبيل التفكير الصحيح والعلم القويم ، هي طريق للنجاح في سبيل الاعتقاد
والتأله ومعرفة طريق الحق والسنة ،إن من أسباب عدم إيمان الكفار والمعاندين
هي في أصلها شهوات مختلفة إما الملك والرئاسة كما صنع فرعون وقال )ماعلمت
لكم من إله غيري ( وقد أكذبه الله وبين على لسان رسوله الكريم موسى )قَالَ
لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَـؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُوراً (،
والذين منع قارون من الإيمان حب المال ، والذين منع أبو طالب الذي كان يعلم
صدق رسالة النبي صلى الله عليه و سلم ولم يكن لديه أدنى شبهة ولكن حب
العشيرة والتعصب للقبيلة وهو من شهوات النفس ولكنه لم يجاهده ويوضح ذلك
بقوله :

ولقد علمت بإن دين محمد من خير أديان البرية ديناً

لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً

ومن
نظر في حال الفرق التي تنتسب إلى الإسلام وبعدها عن السنة وطريق أهل
الإيمان يجد أن السبب هو اتباع الهوى ، ولهذا كان يسميهم السلف أهل الأهواء
، وقبل ذلك نبينا الكريم صلى الله عليه و سلم إذ يقول عن هذه الفرق
المفترقة ( تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه )والكلب هو الداء
الذي ينتج عن عضة الكلب المسعور فإنه ينتشر في بدنه بسرعة كبيرة فيصل إلى
جميع مجاري الدم فالهوى مثل ذلك ، ومن تأمل بعض الطوائف المعاصرة التي وجدت
متنفساً لبث باطلها في بعض وسائل الإعلام إن الإنسان ليعجب أشد العجب من
أناس عقلاء ولهم مناصب مرموقة وينتحلون مثل هذه النحل التي يشهد العقل عند
الصغير والكبير والمرأة والرجل والجاهل والمتعلم بأنها باطلة لا يمكن أن
تكون صحيحه وتجدهم يصرون وينافحون عنها ويحرفون آيات القرآن لتصحيحها،
ويكذبون على النبي صلى الله عليه و سلم لتقريرها ، ألم تسمعوا عن أناس
يعتقدون أن مهديهم في سرداب منذ أن كان طفلاً صغيراً منذ أكثر من ألف وما
ئتين سنة وهو يعلم الغيب ويدبر الكون ولا يكون شيء إلا بإرادته، كيف يصل
الهوى بالبشر إلى مثل هذه الخرافات ، وقل مثل ذلك في أناس عقلاء لكن اتباع
الهوى يعمي ويصم يعتقدون أن النبي صلى الله عليه و سلم يحضر يوم مولده
ويخاطبهم ويصافحهم ، وأن الأولياء الموتى في قبورهم يعلمون الغيب ويدبرون
الكون أليس هذا اتباع للهوى ، بل وصل الحال ببعض هذه الطوائف أن أباحت
المحرمات بحجة أن الإنسان إذا بلغ مرتبة من العبادة فإن التكاليف تسقط عنه
فيفعل ما يشاء ، نعوذ بالله من الضلال والخذلان ولن يكون طريق للهداية
والخلاص من هذه المستنقعات إلا يما جاء في قول ربنا جل وعلا : )وَالَّذِينَ
جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ
الْمُحْسِنِين(أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه
إنه هو الغفور الرحيم .

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه
والشكر له على توفيقه وامتنانه ، والصلاة والسلام على أشرف خلقه محمد بن
عبدالله وعلى آله وأصحابه وأخوانه أما بعد :

أيها المسلمون :

إن
مجاهدة النفس عن اللذة الحرام يحررها من أسر العبودية والذل ويجعلها تطعم
معنى الحرية ، انظر من يعشق الصور المحرم والمشروبات المحرمة كيف يعيش
مأسوراً يقدم كل غالي ونفيس في سبيلها مع أنها تزيد في شقائه وبلاءه ، ولكن
الذين تعالوا عن هذا كله يعيشون أحراراً يتحدون الصعاب ويرتقون في درجات
الكمال عصمنا الله وإياكم من الزلل والخطأ ومن كل ما يغضب المولى جل وعلا .

إن
مجاهدة النفس ومخالفة هواها هو طريق صحيح للنجاح في سبيل الحياة والمعاش
وكسب الرزق ، فإن الكسول الذي لا يعمل ولا يريد أن يتعب في دراسة ولا عمل
لن ينال الكسب الذي يعفه عن سؤال الناس ، ولهذا كان السعي لطلب الرزق
وتوفير اللقمة الحلال مما يؤجر الإنسان عليها كما جاء في البخارى (أطيب
الكسب عند الله عمل الرجل بيده ).

أيها المسلمون : إن هذه القاعدة
الربانية هي سر تفوقنا وتقدمنا وسر حلول البركات علينا من ربنا ومولانا ،
ولكن اعلموا أن أعداءنا يتربصون بنا فيبذلون قصارى جهدهم في أن نركن إلى
أهواءنا وأن نطلق العنان لشهواتنا كما اخبرنا ربنا جل وعلا بقوله :
)وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً(إنهم لا يكفيهم
الميل العادي بل يريد الميل العظيم ، وانظر على سبيل المثال لا الحصر حال
صحفنا وقنواتنا العربية وكيف تريدنا أن نميل ميلاً عظيماً فلنحذر ولنتبع
قاعدة ربنا ونجاهد أنفسنا فإن الخسارة والذلة والهوان في أن نكون عبيداً
لشهواتنا أسارى أهواءنا .إن هذه القاعدة وهذا التوجيه الرباني يجب على
الآباء والأمهات والمعلمين والمعلمات والصحفيين والإعلاميين كل بحسب موقعه
ومسؤوليته أن يسعى في توجيه من تحت يده وتربيته على مجاهدة النفس وعدم
إعطاءها كل ما تشتهي وسوف نجني ثماراً يانعة بإذن الله وأجيال صابرة تتحدى
الصعاب وتنهض بالأمة وتعيد المجد الرفعة ، فاللهم ألهمنا رشدنا وقنا شر
أنفسنا يا أرحم الراحمين.